فى مسألة الفتنة الطائفية وشكاوى الأقباط أفضل شخصياً نشر الرسائل التى تصلنى من مسيحيين بسطاء عاديين وليس رسائل رجال الدين، لأن بعضهم أحياناً يتجاوز ويأخذه الحماس ويتحدث بعنف لتتوه للأسف ملامح القضية الأساسية، مثل كلمات الأنبا بيشوى، ومثل رجل الدين الذى هدد المحافظ بالحرق.... إلخ، فأنا أفضل تناولها من الجانب الإنسانى الاجتماعى ومن قلب الواقع المر، وقد وصلتنى هذه الرسالة من رومانى تحسين صادق الذى يقول:

«أنا مجرد إنسان خريج كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية بجامعة المنيا، عايشت فترة ازدهار تيار الإسلام السياسى المتطرف فى ربوع صعيد مصر، وقتل من أسرتى طبيب فى عيادته وجواهرجى فى محل عمله بينما كان يتحدث على الهاتف مع زوجته.. دون الدخول فى تفاصيل درامية كانت هذه تجربة حياة فى مدينة مصرية عشت فيها ٢٥ سنة، ولأنى من أسرة مثقفة فلم أحصر داخل أسوار الكنيسة ولم أفكر يوماً أن الإنسان يمكن أن أتعامل معه على أى أساس غير الإنسانية، فصادقت محمد وعز وأحمد وعرفات وكنت فخوراً بهذه الصداقات التى استمرت إلى اللحظة التى أكتب رسالتى فيها، ولكن سأحكى لك حكاية بسيطة.

ذات يوم استنجد كاهن الكنيسة المجاورة بأبى صاحب النفوذ ليساعده فى الحصول على توكيل رسمى من مصلحة الشهر العقارى بمدينة ملوى، ونزولاً على رغبة الكاهن توجه والدى بصحبة الكاهن الكهل إلى مكتب الشهر العقارى وأنجز كل المعاملات الورقية الخاصة بالحصول على التوكيل إلى أن حان الوقت للحصول على توقيع الكاهن على الأوراق الخاصة به، فقام والدى باستدعائه من السيارة، وهنا كان المشهد المهيب الذى أذانى وترك جرحاً عميقاً فى نفسى، فبمجرد دخول الكاهن قام بإلقاء التحية الإسلامية على جميع الموظفين فلم يرد أحد، بل ولوا وجوههم بعيداً، فتخيلت أن كل الموظفين كانوا مشغولين لحظة دخوله..

الطريف فى القصة ليس موضوع السلام، الأطرف هو ذلك الموظف الملتحى حديثاً، فبينما كان يمسك بالأوراق ويبتسم لوالدى، انقلب الحال فوراً وقت رؤيته للكاهن المبتسم وكأنه رأى الشيطان، فلم أجد أمامى غير مصارحة الموظف بما رأيت ممازحاً إياه (إنت ليه زعلت لما شوفت أبونا؟)، وكان رده علىّ: أعوذ بالله من الأشكال دى. وصدقنى يا دكتور لم أبد أى امتعاض كى لا أثير أى مشاعر ضد الكاهن وإذا بالطامة الكبرى عندما يطلب الموظف من الكاهن الانتظار بحجة أن التوقيع ليس واضحاً والأوراق ينقصها الكثير.

فى تلك اللحظة ظهر والدى منفعلاً جداً ويمسك بعصاه ملوحاً بها للموظف مخبراً إياه: لماذا كل هذا التعقيد إذا كانت الأوراق كاملة، فلماذا الانتظار؟! (ولا هو تلكيك علشان إنه مسيحى)، وهنا علت نظرات غريبة على وجوه المتواجدين، وأسرع مدير المكتب لإنجاز المعاملة فى الوقت الذى غادر فيه ذلك الموظف المكتب تاركاً المشهد خلفه.

انتهت القصة، وانتهت إجازتى القصيرة فى مصر بعد أيام من حادث ماسبيرو الذى عقد لسانى منظره وأذهلنى كم الكذب الإعلامى المتفشى فى التليفزيون المصرى، وعدت إلى تلك المدينة الرائعة المطلة على الخليج العربى (دبى) ولن أتحدث كثيراً عنها لمعرفتكم بكم الحرية والاستقرار الذى توفره تلك المدينة فأنت حر تماما مادام القانون يتم الالتزام به.

رسالتى سوف يتم مسحها ولكن مشاعرى لن تتغير تجاه أصدقائى المسلمين، رغم استشراء الظلام والجهل، تخيل تلاميذ المدارس ٩ سنوات، فتيات البراءة يكشفن عن أيدى زميلاتهن ليرين الصليب وعند رؤيته تعلو تلك النظرة: أن الطفلة المسيحية لابد أن تلعب بمفردها أو مع أقرانها المسيحيين.

هناك جيل كامل بل أجيال تحمل بداخلها الكثير من العنصرية والظلام الذى أملى عليهم، وأنا لا أحمل الدين الإسلامى نفسه أى مسؤولية، فأنا لا أزدرى الأديان ولكننى أزدرى وبكل شدة هؤلاء الأشخاص الذين اغتصبوا الحرية والتسامح فى وطننا».